معرفة

رَزِيَّة يوم الخميس: عندما مُنع النبي من الكتابة

عزم النبي محمد ﷺ على كتابة شيء لصحابته قُبيل وفاته، لكن وقع ما حال بينه وبين ذلك، فما الذي حدث؟ وما الذي أراد النبي أن يكتبه في هذا الكتاب؟

future صورة تعبيرية (رَزِيَّة يوم الخميس)

قبل وفاة النبي ﷺ بأربعة أيام طلب وهو على فراش الموت ممن كانوا معه في غرفته من الصحابة أمرًا، فتنازعوا واختلفوا في شأن هذا الأمر فنهرهم النبي وغضب وطلب منهم الخروج.

تفاصيل هذه الواقعة التي سنتناولها بمزيد من الشرح تعرف برَزِيَّة الخميس.

الرزية في معاجم اللغة العربية هي المصيبة العظيمة، ومن الواضح أن وصف أحداث تلك الواقعة بالمصيبة الكبيرة له دلالاته.

الخميس وما يوم الخميس

الواقعة، ذُكرت في عدد كبير من كتب السنة والشيعة، سواء كتب السيرة النبوية أو كتب الحديث النبوي.

الرواية الأولى، ذكرها الإمام مسلم في صحيحه، عن لسان الصحابي عبدالله بن عباس إذ قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس. ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ. قال: قال النبي: ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة، أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا فقالوا إن الرسول يهجر».

بحسب الحديث الذي صنفه الإمام مسلم، بوصفه حديثًا صحيحًا طلب النبي من الصحابة أن يأتوه بقلم ولوح ليكتب لهم كتابًا، وصفه بأنه سيحميهم من أي ضلال بعد موته- أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا– فرفضوا وقالوا إن النبي أصابه التعب والهذيان- إن رسول الله يهجر– فلم ينفذوا طلبه.

أما الرواية الثانية التي ذكرها محيي الدين يحيى بن شرف النووي، في كتابه «شرح النووي على مسلم»، ففيها بعض التوضيح والإطالة عن الرواية الأولى، وهي مروية عن ابن عباس أيضًا: «عن ابن عباس قال لما حضر رسول الله، وفي البيت رجال، فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبي: هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده. فقال عمر إن رسول الله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله كتابًا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله، قال رسول الله: قوموا. فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم».

الرواية الثانية قدمت لنا عدة تفاصيل، أبرزها أن الصحابة المجتمعين في غرفة النبي، كانوا فريقين، الأول يرى تنفيذ أمر النبي، والفريق الثاني وكان يترأسهم عمر بن الخطاب، رأى أن النبي واقع تحت وطأة المرض، فيجب أن يراعوا حالته الصحية والاكتفاء بكتاب الله.

انتهى الأمر بطرد النبي لجميع من كانوا موجودين ولم يُكتب هذا الكتاب. أما تعليق الصحابي عبدالله بن عباس، عن الواقعة -الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم- هو السبب في تسميتها رَزِيَّة الخميس، الذي قد نستشف منه مدى حزن وحسرة ابن عباس على عدم إنفاذ أمر الرسول بكتابة هذا الكتاب. بينما تورد كتب الشيعة روايات للحديث تكاد تكون متطابقة، لروايات أهل السنة، ولكن قد يكون بها بعض التفاصيل الإضافية.

في كتاب بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، للفقيه الشيعي محمد باقر المجلسي، عدة روايات للواقعة منها رواية هي أيضًا على لسان عبدالله بن عباس تقول: «يوم الخميس وما يوم الخميس؟! ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتد برسول الله- صلى الله عليه وآله- وجعه يوم الخميس، فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول الله، صلى الله عليه وآله؟! فقال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة».

أما كتاب الغيبة، للعالم والمتكلم الشيعي محمد بن إبراهيم بن جعفر النُعماني فيذكر رواية على لسان علي بن أبي طالب، تؤكد وجوده ووجود طلحة بن عبيد الله: «عن سليم بن قيس أن عليًا قال لطلحة في حديث طويل عند ذكر تفاخر المهاجرين والأنصار بمناقبهم وفضائلهم، يا طلحة أليس قد شهدت رسول الله، حين دعانا بالكتف ليكتب فيها ما لا تضل الأمة بعده ولا تختلف؟ فقال صاحبك- يقصد هنا عمر بن الخطاب- ما قال إن رسول الله يهجر فغضب رسول الله وتركها؟ قال بلى قد شهدته».

وعند قراءة جميع تلك الروايات نجد أن عبدالله بن عباس يطغى عليها، وهذا دليل على أنه من الصحابة الذين كانوا موجودين عند النبي أثناء الواقعة، ولكننا نجهل أسماء جميع من كانوا في غرفة النبي. ولكن من المؤكد وجود عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمّ النبي العباس.

تفسير حديث رزية الخميس بين السنة والشيعة

على الرغم من تشابه يكاد يصل إلى التطابق في رواية الحديث بين السنة والشيعة، فإن فهمهما للواقعة مختلف تمامًا كما سنوضح.

يقول ابن حجر العسقلاني في كتابه «فتح الباري شرح صحيح البخاري»، في تفسيره لمعنى حديث رزية الخميس: «وبكاء ابن عباس يحتمل أن يكون انضاف إلى ذلك ما فات في معتقده من الخير الذي كان يحصل لو كتب النبي ذلك الكتاب».

أما قول عمر بن الخطاب «إن رسول الله يهجر»، فكان تعليق ابن حجر عليه بأن الهجر قريب المعنى من الهذيان، وما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم فائدته، وهذا بحسب كلام العسقلاني، يستحيل وقوعه من النبي، لقول الله، عز وجل: {وما ينطق عن الهوى}.

بينما كتاب «شرح النووي على مسلم» للإمام النووي، يقدم تفسيرًا مؤيدًا لتصرفات سيدنا عمر بن الخطاب.

يقول النووي في شرحه للحديث: «أما كلام عمر- رضي الله عنه- فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله، ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب  أمورًا ربما عجزوا عنها، واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله».

شرح النووي، يدافع عن تصرف عمر بن الخطاب الذي لاقى هجومًا من بعض علماء أهل السنة، وتقريبًا كل علماء الشيعة.

أما في كتابه «دلائل النبوة» فقد أكد الحافظ أبوبكر البيهقي أن تصرف عمر بن الخطاب، راجع إلى خوفه على النبي بسبب تدهور حالته الصحية حيث قال: «إنما قصد عمر التخفيف على رسول الله حين غلبه الوجع».

كما أكد أن ما كان سيقوله النبي ليس بأهمية قصوى والدليل على ذلك، هو عدم إلحاح النبي على الصحابة بضرورة كتابة هذا الكتاب: «ولو كان مراده أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره».

أما وجهة النظر الشيعية في تفسير حديث الرزية، فهي مختلفة تمامًا. فيورد المتكلِّم الشيعي عبدالحسين شرف الدين الموسوي في كتابه «المراجعات» عددًا من الروايات، وبدأ في تقديم تفسيره للواقعة، إذ بدأ بالهجوم على سيدنا عمر بن الخطاب لسببين، الأول يتعلق بامتناعه إنفاذ أمر النبي بكتابة كتابه، بينما السبب الثاني، يتعلق بكلمة «هجر رسول الله» التي أكد أنها لا تليق بمقام النبي وقال شرف الدين: وليتهم -أي الصحابة الحاضرين- اكتفوا بهذا كله ولم يفاجئوه بكلمتهم تلك -هجر رسول الله- وهو محتضر بينهم، وكأنهم لم يسمعوا هتاف الكتاب آناء الليل وأطراف النهار يقول: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} - سورة الحشر.

واستمر في تقديم عدد من الآيات القرآنية التي تدل على ضرورة تنفيذ أوامر النبي، وأنه معصوم من الهجر أو الخلط أو الهذيان بسبب المرض مثل الآية: {ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى} - سورة النجم.

وفي كتاب «النفيس في رزية الخميس» للشيخ عبدالله دشتي يذكر أن الفريق الذي عارض أمر النبي وكان على رأسه عمر بن الخطاب كان مخطئًا، ودلل على ذلك بغضب النبي منهم إذ طالب منهم الخروج من غرفته.

يقول دشتي: «وإذا قلنا إن الفريقين بين مشفق على حال النبي، ومن يريد تنفيذ وصيته في إحضار ما يكتب به، فلماذا غضب النبي وقال: قوموا عني؟ فهل يغضب رسول الله من دون أن يكون هناك موجب للغضب؟».

ما الذي أراد النبي أن يكتبه في هذا الكتاب؟

نصل الآن إلى السؤال الأهم: ما الذي كان سيكتبه النبي في هذا الكتاب؟

الإجابة الدقيقة لهذا السؤال مستحيلة، لأن الفعل نفسه لم يقع، لكن اجتهد علماء الأمة في أن يقدموا إجابات للسؤال الأصعب، ولكن وفقًا لمعتقداتهم العقدية، ولذلك فالإجابات متباينة للغاية كما سنقدمها، ولكنها تدور في فلك خلافة النبي.

في شرحه لحديث الرزية، يقول النووي في كتابه «شرح النووي على مسلم»: «إن الكتاب الذي أراد النبي أن يكتبه هو الأمر بخلافة أبي بكر الصديق، بعد موته، حيث يقدم مجموعة من البراهين التي تقوي اقتراحه».

وقال النووي نصًا: «وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر، ثم ترك ذلك اعتمادًا على ما علمه من تقدير الله تعالى ذلك. ثم ترك الكتاب وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ثم نبه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة».

بينما يقدم البيهقي في كتابه «دلائل النبوة» إجابة أخرى، وهي أن النبي كان يريد توضيح أحكام الدين، وإبعاد أي خلاف قد يصيب المسلمين بعد ذلك في تلك الأحكام. ولكن رأى عمر أن ذلك سيكون مشقة على النبي، وأيضًا لكي لا يسد باب الاجتهاد على أهل العلم.

يقول البيهقي: «وإن كان المراد بيان أحكام الدين ورفع الخلاف فيها. فقد علم عمر حصول ذلك؛ لقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}. وفي تكلف النبي في مرضه مع شدة وجعه كتابة ذلك مشقة، ورأى عمر الاقتصار على ما سبق بيانه إياه نصًا أو دلالة تخفيفًا عليه. ولئلا يسد باب الاجتهاد على أهل العلم والاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول».

تبدو إجابة البيهقي بعيدة تمامًا عن الواقع التاريخي للحادثة، كما أن حجتها ضعيفة، لأن الحدث الجلل، وهو احتضار النبي، كانت وطأته شديدة للغاية على الصحابة، لدرجة أن صحابي في وزن وإيمان عمر بن الخطاب رفض فكرة وفاة النبي، وذلك بعد أحداث رزية الخميس بأربعة أيام فقط، ويبدو أنه أصيب بصدمة بسبب الوفاة، فكيف في هذه الظروف يفكر عمر بن الخطاب في مثل هذه الأمور المستقبلية؟

بينما تجمع علماء الشيعة على أن هذا الكتاب كان سَيُعلن فيه خلافة علي بن أبي طالب على المسلمين بعد موت النبي.

يقول السيد شرف الدين في كتابه «المراجعات»: «لكنهم علموا- من رفضوا إنفاذ أمر النبي- أنه إنما أراد توثيق العهد بالخلافة، وتأكيد النص بها على علي بن أبي طالب خصوصًا، وعلى الأئمة من عترته عامة، فصدوه عن ذلك كما اعترف به الخليفة الثاني في كلام دار بينه وبين ابن عباس».

أما الحوار المقصود الذي دار بين عمر بن الخطاب وعبدالله بن عبّاس، فمذكور في كتب عديدة من بينها «الكامل في التاريخ» للمؤرخ عز الدين بن الأثير: «فقال– أي عمر بن الخطاب- يا ابن عباس، أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمد؟ فكرهت أن أجيبه فقلت: إن لم أكن أدري فإن أمير المؤمنين يدريني. فقال عمر:  كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتبجحوا على قومكم بجحًا بجحًا، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت».

أي إن قريش منعت أي محاولة من محاولات جمع النبوة والخلافة في بني هاشم، فحاربت بني هاشم لكي لا تصل إلى الخلافة، لأنها رأت إن وصلت بني هاشم إلى ذلك ستتعامل الأخيرة مع قريش بفخر وتباهٍ -فتبجحوا على قومكم بجحًا بجحًا– وقررت اختيار ما اعتقدت أنهم الأحسن لهم وهنا المقصود هو الخليفة الأول أبو بكر الصديق.

لم يكتفِ السيد شرف الدين بذلك، لكن قدم أدلة على إجابته، عبر ربط حديث الرزية بالحديث النبوي عن الثقلين، الذي يقول: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي».

يقول السيد شرف الدين عن ربط الحديثين معًا: «إذا تأملت في قوله صلى الله عليه وآله: ائتوني أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده وحديث الثقلين، تعلم أن المرمى في الحديثين واحد، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم، أراد في مرضه أن يكتب لهم تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين».

هذا التفسير لم يسلم من هجوم علماء أهل السنة وعلى رأسهم تقي الدين بن تيمية، في كتابه «منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية»، الذي قال تعليقًا على هذا التفسير، «ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي، فهو ضال باتفاق عامة الناس، من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون إن عليًا كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصًا جليًا ظاهرًا معروفًا، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب».

بعد هذا العرض، نركن إلى أن محاولة معرفة محتوى الكتاب الذي كان سيكتبه النبي في أيامه الأخيرة هي أمر صعب يكاد يكون مستحيلًا، ولكن بما أن الخلاف الذي وقع للمسلمين بعد وفاته بساعات حول من يخلفه، وما حدث بعد ذلك من فتن، كمقتل سيدنا عثمان، وما تلى ذلك من حروب أهلية بين المسلمين، نرى أن هذا الكتاب، كان من الممكن أن يكون بخصوص هذه المشكلة.

كان من الممكن أن يكون الكتاب عبارة عن مصطلحات عصرنا، دستورًا يحدد معالم المرحلة القادمة أو أن يحدد فيه عوامل اختيار الخليفة بعد وفاته ﷺ.

# النبي محمد # سيرة # يوم الخميس

نهج البردة الجديد: السيرة النبوية في المسرح والرواية العربية
نبي الإسلام في القرن العشرين: السيرة بأقلام الأدباء الراحلين
أبو بكر لم يرافق النبي: أثر السياسة على الهجرة النبوية

معرفة